الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الإثنين 20 / مايو 10:01

خواطر حول انقلاب الساعات الستة في تركيا/ بقلم: الشيخ إبراهيم عبدالله صرصور

كل العرب
نُشر: 19/07/16 17:15,  حُتلن: 08:31

إبراهيم عبدالله صرصور في مقاله:

ما تسرب إلى قلبي شك في ان الله سبحانه ناصر تركيا الإسلامية رئيسا وحكومة وشعبا، وأنه جل في علاه جاعلٌ من هذه الواقعة بدايةَ مرحلة جديدة تؤسس لانتصارات لأهل الحق سرمدية وهزائم لأهل الباطل أبدية

مع رَشْحِ المعلومات الأولية حول محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا ، طافت بخيالي، ولا ادري لماذا، مجموعة من الصور والمشاهد احسست أنها نزلت علي قلبي بردا وسلاما، فما تسرب إلى قلبي شك في ان الله سبحانه ناصر تركيا الإسلامية رئيسا وحكومة وشعبا، وأنه جل في علاه جاعلٌ من هذه الواقعة بدايةَ مرحلة جديدة تؤسس لانتصارات لأهل الحق سرمدية وهزائم لأهل الباطل أبدية...

( 1 )
المشهد الأول ، ( اليوم نَغْزُوا ولا نُغْزَى ) ، تصريح صدر عن النبي الاكرم محمد صلى الله عليه وسلم بعد ان نقضت قريش صلح الحديبية الأمر الذي مهد الطريق لفتح مكة المكرمة وتطهيرها من كل صور الظلم وإعادتها قاعدة للإيمان ومنطلقا للتوحيد والوحدة على مستوى الأمة والإنسانية .. أسس هذا التصريح الاستراتيجي لمرحلة جديدة انتقل فيها المسلمون من مرحلة ( الدفاع ) إلى مرحلة ( الهجوم ) ، ومن مرحلة ( رد الفعل ) إلى مرحلة ( الفعل والمبادأة ) ... لقد كان نقض قريش للاتفاق سببا في تغيير وجه تاريخ الجزيرة العربية تمهيدا لتغيير وجه العالم الذي تحقق بعد بضع سنين ..

لا أستبعد ان الاقدار الربانية شاءت لهؤلاء البائسين من قادة الجيش والسياسة والقضاء في تركيا أن يخرجوا على الشرعية في تركيا وان يرتكبوا هذه الجريمة ويشنوا هذا العدوان على دولة المؤسسات التركية ، ليمنحوا قيادتها الفرصة لإعادة هيكلة الدولة بما يتناسب ومرحلة جديدة ينتقل فيها النظام من الدفاع الى الهجوم ومن رد الفعل الى المبادأة .. كما أصبحت دولة الإسلام الاولى بعد فتح مكة غير الدولة قبل الفتح ، فأنا على ثقة بان الدولة التركية ستكون غيرها قوة وتماسكا وثقة بنفسها وبسياساتها وبقياداتها بعد هذا الانقلاب البائس مما كان عليه الحال قبله .....

( 2 )
المشهد الثاني ، ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .. إنها الآية التي افتتح بها القاضي محيي الدين بن الزكي خطبة أول جمعة بعد تحرير صلاح الدين الأيوبي – رضي الله عنه – للقدس والأقصى المبارك في يوم الجمعة 27 رجب لعام583هـ الموافق 2 تشرين أول/أكتوبر 1187م بعد معركة حطين الباسلة ، أوردها ابن أبي شامة في الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية ، قال فيها : ( الحمد لله معز الإسلام بنصره ، ومذلِّ الشرك بقهره ، ومصرفِ الأمور بأمره ، ومديمِ النعم بشكره ، ومستدرج الكافرين بمكره ، الذي قدر الأيام دولا بعدله ، وجعل العاقبة للمتقين بفضله ، وأفاء على عباده من ظله ، وأظهر دينه على الدين كله ، القاهر فوق عباده فلا يماَنَع ، والظاهر على خليقته فلا ينازع ، والآمر بما يشاء فلا يراجع ، والحاكم بما يريد فلا يدافع . أحمده على إظفاره وإظهاره ، وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره ، وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره ، حَمْدَ من استشعر الحمدُ باطنَ سره وظاهرَ جهاره ) انتهى.......

لقد جاء خطاب الرئيس أردوغان وقادة آخرون كالرئيس السابق عبدالله غول ورئيس الوزراء السابق احمد داو اوغلو ورئيس الوزراء بن علي يلدرم ، نسخة طبق الأصل لخطبة ابن الزكي من حيث مضمونها الشاكر لله على فضله ، وللشعب بكل مكوناته بما ذلك أحزاب المعارضة على دوره ، وبالإعلام الحر على بلائه ...

انتهى العدوان الإرهابي الانقلابي ، ورحل جنوده إلى غياهب السجون يجرون أذيال الخيبة ، يعضون على شفاههم ، ويأكلون أطراف أصابعهم ، غيظاً وكمداً ، وحسرةً وأسى ، إذ ما نفعهم طيرانهم الحربي، ولا صواريخهم المدمرة ، ولا قنابلهم المزلزلة ، ولا شيء مما أعدوه واستخدموه ، أو أخفوه ولم يظهروه ، وقد كانوا يمنون أنفسهم بنصرٍ ناجزٍ، وفوزٍ كاسحٍ ، يذل أحرار تركيا ويسقط حكومتها الشرعية ورئيسها المنتخب ديموقراطيا ، ويرغم أنوفهم، ويجبرهم على الصراخ والعويل ، والبكاء والنحيب ، طلباً للأمان ، وسعياً وراء السلامة ، وإيثاراً للحياة بذل ، والعيش بمهانة ، ولكن تركيا خيبت ظنهم ، وأيقظتهم من سكرتهم ، وتركتهم في ضلالهم يعمهون ، وقد عضت على نواجذها بعزمٍ ومضاء ، وإيمانٍ ويقين ، أن أحداً بعد اليوم لن يهزمها ان شاء الله ، وأن عدواً بعد اليوم لن يقهرها .

ولقد صدق من قال واصفا حالنا مع بدأ المحاولة الانقلابية ، وحالنا بعد فشلها :
يا تركيا سهِرتْ لأجلك أمتي مفؤودةً وتحشرجت أنفاسُها
أسقطتِ أقنعةَ اللئام بعزّة وفضحتِ شرذمةً بدا إفلاسُها

( 3 )
المشهد الثالث ، ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) ... لاحت لي هذه الآية مع بداية تسرب الأخبار الأولى لمحاولة الانقلاب .. تخيلت وضع أحرار تركيا على المستويين الرسمي والشعبي وهم لم يتبينوا بعد حقيقة ما يجري ، مما انكشفت تفاصيله فيما بعد من شراسة المؤامرة وخطورة العدوان وعمق المكر والكيد لتركيا الحديثة والصاعدة .. نحو ساعة مَرَّتْ ظهر فيها كل خبثاء الأرض من الداخل والخارج في تناغم مع محاولة الانقلاب ، حتى لكأني أرى أبطال تركيا وقد بلغت قلوبهم الحناجر ينتظرون من يطمئنهم على دولتهم التي بنوها وبالدم والعرق وهي توشك ان تقع في أيدي ذئاب العسكر ، وعلى قيادتهم التي نهضت بهم حتى اصبحوا في مصاف الدولة العظمى والشعوب الكبرى ...

خرج قادة تركيا بعد ساعة أو نحوها وعلى رأسهم الرئيس اردوغان ليُذَكِّرَ بلسان حاله ومقاله بقول الله تعالى : ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) ، فكانت النتيجة بعد ست ساعات سقط خلالها الانقلاب واندحر كيده ، فكان حال المنتصرين حالَ من قال الله فيهم : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ ينتظر ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) .. وجاء بعد ذلك الفرج الممزوج بالحزن على من اصطفاهم الله في هذه الواقعة شهداء ، ( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) .. نعم ، ( قوي وعزيز ) .. هكذا يريد الله سبحانه من عبادة ان يكونوا ، وقد كان عباده الصالحون في تركيا كذلك ...

( 4 )
المشهد الرابع ، ( اللهم ان تَهلك هذه العُصبة ، فلن تُعبد في الأرض أبدا ) ... كلمات طَيَّرَها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله الناصر قبل التحام الجيشين الإسلامي والكافر في معركة بدر الكبرى ، قَدَّمَ فيها وصفا دقيقا لواقع الحال في كلمات موجزات ... فقد حدثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رضي الله عنه قَالَ : لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ، نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَىَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ ، وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمّ مَدّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ : " اللّهُمّ! أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللّهُمّ! آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللّهُمّ! إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَبَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ " ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ ، مَادّاً يَدَيْهِ ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتّىَ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَىَ مَنْكِبَيْهِ . ثُمّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ ، وَقَالَ : يَا نَبِيّ اللّهِ كَفاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبّكَ، فَإنّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ . فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ).

لقد بلغت ثقة الرسول الاكرم بربه ، أنه سينزل عليه وعلى أصحابه نصره رغم الخلل الكبير في موازين القوى ، حدا لا يعرف حقيقته الا من اغترف من معينه ، فجرّأه ذلك على أن يقرر حقيقة لا يجرؤ عليها الا رسول الله عليه السلام ، اشترط فيها على الله تنزيل النصر ، لأن هزيمة هذه الفئة معناه القضاء على الإسلام وفراغ الأرض من أي أمل في عبادة الله ، ولم يعترض الله على هذا الوصف والتقدير الاستراتيجي ، فكان النصر من الله أصدق شاهد وأبلغ دليل على ذلك ..

لم يكن الرسول مبالغا ولا متجاوزا لحد ، وإنما رفع تقريرا فيه قراءة حقيقية للواقع ، وقد رأى كفار مكة قد خرجوا بقضهم وقضيضهم وبفلذات أكبادهم ليرموا هذه الفئة المؤمنة عن قوس واحدة ، حتى لا يبقوا لها بعد الوقعة أثرا .. هذا كان مخططهم ، وهذه كانت نواياهم ، فلا غرو أن يواجه رسول الله كيدهم ومكرهم ( وإن مكرهم لتزول منه الجبال ) بإعداد ما استطاع من قوة مادية ،عرف ببصيرته النافذه أنها لن تكون كافية إلا ان يسندها الله بقوة من عنده .. فكانت الاستجابة التي حققت النصر الكبير وغيرت قواعد الاشتباك بين المعسكرين إلى الأبد ..

مَرَّ هذا المشهد في مخيلتي وانا ارقب تطورات محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا ، فدعوت الله من غير افتئات عليه او تجاوز لحدود الأدب معه ومن غير عقدٍ لمقارنة من أي نوعٍ بين واقعة بدر ودعاء الرسول فيها وبين واقعة محاولة الانقلاب قائلا : اللهم إنك تعلم أننا ما عرفنا عن عبدك الصالح اردوغان وأصحابه الا كل خير وانت بهم اعلم ، ولم نرصد منهم إلى كل إخلاص في سعيهم لتجديد وهج دينك ، وألَقَ شريعتك ، وعزةَ خلافتك وإن بالتدريج ، وانت بذلك اعلم .. اللهم إنك تعلم أن هَذِهِ الطغمة من خونة الجيش التركي واتباعهم في مؤسسات الدولة والعالم ، قَدْ أَقْبَلَوا بِخُيَلاَئِهَم وَفَخْرِهَم، تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ دينك ورَسُولَكَ وأوليائك الصالحين ، اللَّهُمَّ فَنَصْرُكَ الَّذِي وَعَدْتَ رسولك ، اللَّهُمَّ أَحْنِهِمُ الْغَدَاةَ .. اللهم إنك تعلم أن عبادك الصالحين اردوغان وأصحابة قد وقفوا ببابك يرجون نصرك وتأييدك ، فلا تخيب فيك رجاءهم واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن ايمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ومن تحتهم ، واجعل دائرة السَّوْءِ على من خذلهم وتآمر عليهم وكاد لهم .. اللهم إنك تعلم ان تركيا اليوم قلعتك الوحيدة في الأرض الحارسة لشريعتك ولدينك والأمينة على إرثك والمدافعة عن حياضك ، والمخلصة في إحياء خلافتك .. اللهم إن تسمح بإسقاط قلعتك الوحيدة فأمْرٌ ما بدى لك ، لكنا نطمع في كرمك ونتوق إلى نصرك ، فلا تشْمِتْ بنا وبهم اعداءَك ، لك العقبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك .....

بعد سويعات جاءت البشرى لتملأ الفضاء عبقا ، فلم نجد نحن هنا ، ولم تجد القيادة والشعب التركي هناك من شيء نُعَبِّرُ به عن شكرنا لله الا الدموع وسجود الشكر والثناء على الله ثم على الشعب الذي لبى نداء الواجب فرسم خطوط ملحمة خالدة سيكون لها ما بعهدها ..

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net

مقالات متعلقة