الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 19 / أبريل 11:01

مصر.. الاستبداد بلا حياء أو خجل/ بقلم: المهدي مبروك

كل العرب
نُشر: 04/02/18 07:30,  حُتلن: 07:50

المهدي مبروك في مقاله:

حالة مثالية من العسكرتاريا العربية الراغبة في استبداد سافر من دون "روتوشات" تلطيفية

خلع السيسي بزته العسكرية، واستوى على العرش رئيسا مدنيا برتبة ملوك مصر القدامى

تقدم الحالة المصرية الراهنة نموذجا دالا على استبدادٍ رثٍّ، لا تجد له نظيرا في عالمنا الراهن. إذ صاغ الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، استبداده من مصادر عديدة، لكنه كان مبتكرا أيضا في "خلطته" إلى حد الإبداع . قدم من مؤسسة عسكرية كان لها، ولا شك، أدوار وطنية وقومية مهمة، على الرغم من التباساتٍ ما زالت تطرح أسئلة في علاقة المؤسسة العسكرية تحديدا بالقرار السياسي والتسويات التي حدثت، بعد كل المعارك التي خاضها الجيش المصري. وقد استطاع نظام السيسي هذا أن يجني من رمزية الجيش المصري تلك، وتداخله اللصيق مع الاقتصاد، ثمارا سياسية، مستغلا حالة الارتباك والعجز السياسي التي ظهرت عليها النخب السياسية المصرية إبّان تولي محمد مرسي الحكم تحديدا. كان ذلك قد حدث جله في تواطؤ إقليمي لم يعد خافيا على أحد، للإجهاض على بداية تحول عسير نحو الديموقراطية، بكل ما ميز تلك المرحلة من أخطاء قد تكون فادحةً، ارتكبها "الإخوان المسلمون"، على الرغم من أن "رصيدهم" في مجال الانتهاكات لا يكاد يذكر، أمام ما يقترفه نظام السيسي حاليا، بل يبدو أن الفترة الحالية لم يوجد لها مثيلٌ في تاريخ مصر المعاصر، بما فيها فترتا أنور السادات وحسني مبارك. ولعل عدد الإيقافات، عدد الأحكام الصادرة، عدد الإعدامات.. التي نشرتها منظمات حقوقية ذات مصداقية، خير دليل على أن حالة مصر الراهنة غير مسبوقة. يجري ترتيب ذلك كله بعنايةٍ فائقةٍ، في مناخ من الرعب الحقيقي من الإرهاب الذي يمنح المستثمرين والمقاولين والإعلاميين فرصة لتبرير أشد أنواع التنكيل والانتهاكات، طمعا في الأمن، ولا ندري إن كان هذا مجرّد استثمار سياسي للخوف، أم هو تحالف موضوعي أملته مصادفات السياق الذي حفّ بمصر بين الاستبداد من جهة والقوى الإقليمية من جهة أخرى، بما فيه حاضنة الإرهاب، حتى يتم التضحية، وإلى الأبد، بأحلام الديموقراطية والحرية.

أيدت أوساط عديدة الانقلاب، وكانت جل ردود الأفعال تلك نكاية في "الإخوان المسلمين"، حتى ولو كان القادم أشد بطشا وتنكرا للديموقراطية وحقوق الإنسان. وقد عبر عن ذلك، أخيرا، زعيم الجبهة الشعبية اليسارية في تونس، مثلا، حين قال "الديموقراطية التي تأتي بحركة النهضة الدكتاتورية أفضل منها". وله في مصر أكثر من نظير متوزعون على تيارات دينية وعلمانية ويسارية، كما عبرت عنه بعض فصائل وكيانات قومية، ومنها المؤتمر القومي العربي الذي لم يكترث بوضع الحريات، ولم يصدر عنه أي موقف على الإطلاق، عبر فيه عن انشغالاته بوضع حقوق الإنسان في "مصر العروبة"، بل على خلاف كل تلك الانتظارات، خير هؤلاء الانتصار للعسكر، وهو الذي تولّى تصفية خصومهم، وذلك ما يطرح حقيقة التباس أطروحات التيار القومي العربي عموما من مسألة الحريات والديموقراطية.

لقد خوّن نظام السيسي التنسيق مع حركة حماس، واعتبره تخابرا وخيانة، ولم ير هؤلاء حجم "الخيانة القومية" التي يرتكبها النظام المصري، وهو يخنق قطاع غزة، ويلقي براميله المتفجرة على أنفاق غزة التي تهرّب طحينا وحليبا ودواء، وهو الذي فتح ذراعيه، أكثر من أي وقت مضى، لاحتضان الكيان الصهيوني. الحقد الاديولوجي وحده يعمي الأبصار.
خلع السيسي بزته العسكرية، واستوى على العرش رئيسا مدنيا برتبة ملوك مصر القدامى، وكان له أسلوبه الخاص في التواصل إلى حد تحتار في نحت ملامحه الشخصية، ف"الفهلوة"، كما يقول أشقاؤنا المصريون، لم تعد قادرةً على توصيف ما يسلكه الرجل في تصريحاته ومواقفه. لكن ألقت به قدرا من العقم واليأس مراكز قوى المؤسسة العسكرية في عقد حياة أو موت مع جهات متنفذة ودولة عميقة وقوى إقليمية دولية راهنت، وما زالت تراهن عليه، شوكة متقدمة في خصر بعض القوى غير المرغوب فيها دوليا ومحليا.

ضخّت الأموال من أجل استنبات حواضن للقبول السياسي بنظام السيسي، ورهن الناس في أمنهم وخبزهم، حتى تجدّد له بيعة "الأمن"، ولكن الناس ينتظرون أن يعمد الرجل، بين حين وآخر، إلى الاستعانة ببعض "الوصفات الحديثة"، للاستبداد الناعم، على غرار انفتاح نسبي، يسمح بتعدّديةٍ دنيا، وإعلام شبه حر، وتمثيلية برلمانية، وجمعيات قادرة على قول الحد الأدنى، وتبنّي إصلاحات تلغي حكم الإعدام مثلا.. إلخ، فيما يشبه التنفيس أو تلطيف الاستبداد. لكن الرجل يرفض حتى "هذه الحيل"، لأنه يريد أن يحافظ على النسخة الصافية، والنموذج المثالي للاستبداد العسكري العربي: مزيج من العقلية العسكرية والأبوية والبداوة والوطنية المحلية والتبعية التي تصل إلى حد التزلف وفقدان الكرامة. يقدّم نظام السيسي حاليا نسخة ما قبل بن علي تونس، فالرجلان وإن كانا في سياقات مختلفة يلتقيان في مناطق مشتركة: العقلية الأمنية، إنكار أن تكون أحلام الشعوب أكثر من الرغيف والأمن.
وإذا كنا نفهم دواعي القبضة الحديدية التي يوجها السيسي إلى خصومه السياسيين الذين تحولوا إلى أعداء، وتحديدا الإخوان المسلمين في مصر، فإننا لا نفهم ما الذي يمنع السيسي من أن يخوض حملة انتخابية فيها، يتنافس مع الذين حسبوا على دوائره ومناخاته وحاضناته: أحمد شفيق، سامي عنان.. إلخ، فهل كان يحتاج السيسي إلى حجز الأول واعتقال الثاني، حال إعلانهما بشكل أو بآخر، خوض تجربة الانتخابات الرئاسية. هل يحتاج السيسي، وقد ضمن مسبقا انتصاراته الساحقة، إلى أن ينغص على جمهورٍ يعرف نهاية المسرحية قبل أن يبدأ العرض فرحته، بأن يضع لنا كومبارسات ورقية، ليس لها الحق حتى في السقوط الآمن، بل عليها إن انحرفت أن تقع، في الهاوية المميتة، بقطع النظر عن هامش ما يصدر عنها من بهلوانيات مسلية.
لا شيء يفسر لنا هذه السلوكات التي تثبت، مرة أخرى، أننا ونحن نشاهد السيسي يخوض انتخاباتٍ رئاسيةً بلا منافسين، بل بمنافسين في السجون والإقامات الجبرية، سوى التأكد أننا أمام حالة مثالية من العسكرتاريا العربية الراغبة في استبداد سافر من دون "روتوشات" تلطيفية.

*نقلا عن العربي الجديد

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net 


مقالات متعلقة