الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأربعاء 24 / أبريل 16:01

يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائهًا- نبيل عودة

نبيل عودة
نُشر: 09/06/19 22:18,  حُتلن: 00:03


هكذا تمضي الأيام


لست أدرى بالدافع الذي يشدني لأجلس امام النهر متأملاً اندفاع الماء اللانهائي. كانت تمر على عشرات الوجوه، تجذبني للحظات وانساها، لأعود أتأمل حركة الماء. وكثيرًا ما يعتريني شعور الوحدة القاتل ولكني بقيت ملتزمًا لعادتي غير المفهومة. احيانًا اقتنع باني الضائع الوحيد في هذا العالم؟ او على الاقل في هذا المكان، تبعًا لذلك استنتج بثقة أنى التائه الوحيد امام هذا النهر وانه لا قيمة للزمن في حياة التائهين.
جميل ان يرى الانسان الوجوه عبر انعكاساتها في اعماق الماء. بعضها يبدو أكثر طولاً وبعضها أكثر عرضًا، ولكنها امور تمر بسرعة بحيث أنى لا اتذكرها. احيانًا يخيل لي ان الجلوس أمام النهر هو حل شجاع لمشاكل الضياع. المشكلة أنى لا اشعر داخليًا بشيء.
انا في منتصف عقدي الرابع. اشعر بالضياع منذ وقت طويل جدًا. احاول ان احدد المنطلق الجوهري لما اعانيه، فتمتلئ صفحة النهر بعشرات الصور والخيالات والاحداث.


حوار مع رجل لم يته
- لن يستعيد العرب قوتهم.
-هتلر وزع دعوات ليحتفل باحتلال لينينغراد والنتيجة انه لم يستطع دخولها..
-دائمًا تقود النقاش بعيدًا!
-بل احاول تخليصك من أزمتك..
-أزمتي الوحدة القاتلة!
-تزوج اذن!
-كيف استطيع ان اجد زوجة اذا لم اجد نفسي بعد؟!
- هل تخليت عن حبيبة الروح؟
- تزوجت غيري.

***

انخفضت نسبة الضوء وبدت لي الدنيا اقل حركة وأكثر هدوء، وصار النهر أجمل. اصبحت الانعكاسات على صفحته مشوشة بحيث لم اعد أستطيع التمييز بين الوجوه، كل ما هنالك اشكال هندسية تتبادل الظهور، تمر امام عيني كما تمر الصور السينمائية وتشدني صفحة النهر لأيام زمان.

غزلية من أيام زمان

الى التي اهدتني قبلة قبل المغيب
عبر شرفتها المشرقة
فأصبحت نجمي الليلي
به اهتدي الى الطريق
عائد أنا،
عائد...
وان طال الطريق
(كتبت في السجن)
•ملاحظة: انا عدت. اما هي فلم تنتظر.

***

ايام زمان لم اشعر بالملل، كنت ملحوقًا بالوقت واتمنى ان يصبح للساعة احدى وستون دقيقة... تململت في جلستي بعض الشيء. الآن امنيتي ان يركض الزمن. ان تنقص دقائق الساعة.


حيث لا يشعر الإنسان بذاته

خذني معك
ايها النهر المتحرك
بالوجوه المشوشة.
احمليني...
ايتها المياه المندفعة
في مجرى النهر...
الى هناك
حيث قد يكون بلا شك
عالم آخر
لا يشعر فيه الانسان بذاته
وتصبح الكلمات بلا معاني
وينتهي التفكير

**
اجل، حينما لا يكون تفكير لا تكون عقد. امتلأت صفحة النهر بالنجوم فاهتممت بالبحث عن القمر.

اردت ان ارفع عقيرتي بالغناء، ليس رغبة مني بعملية الغناء نفسها، وليس لان اغنية ما تدندن في رأسي. لم يكن شيء من هذا او ذاك. فانا لا احفظ أكثر من مطالع بعض الاغاني، ولا يستهويني الغناء، وصوتي لا يصلح للغناء والمكان غير مناسب لغنائي، كل ما هنالك انها حالة طرأت على سرعان ما وأدتها.


حوار آخر مع الرجل غير التائه

-تزوج..
-فاتني القطار. ثم ان مشكلتي ليست هنا.
-الزواج قد يخرجك من عقدتك.
-ربما يخرجني من عقدة ليربكني بعقدة اصعب.
-شعور العجز والتردد اياه.
-لا حيلة لي في ما يحدث.
-انت تقول هذا؟!
-......
-انت الفوضوي المندفع كالعفريت.. المغامر الـ....
-لا تحدثني عن ايام زمان...
-العرب ليسوا اول أمة تهزم. قبلها هزمت عشرات الامم.
-لم يعد ذلك يهمني.. هل تفهم ؟!
-هس... لا تصرخ انا لا اقاتلك.

وجه لا ينسى

انعكس وجهها على صفحة النهر بين النجوم، فبدا جمالها أكثر عظمة واشد تأثيرًا. انتابتني كآبة شديدة ووددت لو اخرجت الوجه واحتفظت به بين كفي. بيني وبين نفسي اعترفت، بشيء من الارتباك أنى ما زلت أحبها وأحن الى الايام التي ربطتنا، كنت كلما رأيتها في زياراتي الخاطفة لمدينتي ينتابني الألم. الآن أصبح عندها طفلان وزوجها كان زميلي في الدراسة، لا تربطني به صداقة خاصة، كل ما هنالك معرفة قديمة من ايام الدراسة.
كنا نتبادل الاشارات عبر الهواء الطلق. هي في شرفتها وانا منزو في زاوية الشارع. نلتقي خطفًا لنتبادل تحية صامتة مرتعشة، نبحث عن أكثر الاماكن زحمة بالناس لنستطيع بحجة المرور ان نلتصق ببعض، صور مضحكة ولكنها أعذب ذكرى أحملها.
في معارك الأول من أيار المشهورة، التي حدثت في مدينة الناصرة سنة 1958، ردا على قرار السلطة بمنع مظاهرة اول أيار لوقوعه بمناسبة عشر سنوات على إقامة إسرائيل، قذفت الحجارة وكل ما تطوله يداي من سطح الارض. وعندما أمسى اول ايار كنت مطروحًا أنزف في زنزانة ملأى بالاصوات. واستعدت وعيي بعد ساعات طويلة. وفي خلال السنة التي قضيتها سجينًا ضاع حبي الاول والاخير. حبيبتي تزوجت.
لم اعرف لماذا خانتني! لماذا لم تنتظرني؟!
لم انس الصدمة. كانت تسكن مع زوجها قرب بيتنا، بحيث اراها صباحًا ومساء. ولكنها لم تحاول ان تنظر اليّ مطلقًا. كانت تتجاهلني بشكل يثير حقدي. وبنفس الوقت يزيد اعجابي ورغبتي فيها. تركت مدينتي تمامًا ولم أستطع ان اترك حبها. بقي معي. كنت، وربما ما زلت، كلما رأيت زوجين متحابين تثور نفسي عليهما. هل هي الغيرة؟ لا ابدًا! اذن ما حالتي؟! لا اعرف ولا انوي التفكير بهذا الموضوع.
اليوم لم يبق لدي من ذكراها الا قصاصة ورق صفراء صغيرة عنونتها بـِ:"غزلية من ايام زمان".

حادث غريب ذات مساء

لي جارة ارملة، في غربتي بمدينة تل ابيب اليهودية، زوجها طيار سقط في آخر يوم من ايام حزيران الستة المشؤومة. كانت علاقتي بها وبزوجها جيدة، وحتى بعد فقدانها لزوجها بقيت علاقات الاحترام قائمة، وكثيرًا ما حاولا سوية اقناعي بالعدول عن فكرتي المعارضة للزواج. كنت ارتاح اليهما لدرجة أنى قصصت عليهما صدمتي وسبب هجرتي لمدينتي. هما الوحيدان اللذان كنت ارتاح اليهما في كل شيء ما عدا في السياسة. كنت اجري معهما نقاشات عنيفة تمتد احيانًا لليلة كاملة. وكنت اشتري الحلوى وبعض الالعاب لطفلتهما "شولا" وكانت "شولا" الصغيرة أحسن صديق لي. إذا لم اذهب للنهر اكون معها.
في مساء أحد الايام استدعتني جارتي الارملة. كان بعض القلق عالقًا بمحياها، ونظراتها حزينة. قالت قبل ان اخطو للداخل:
-شولا لا تصدق انك عربي.
لم أجد غرابة في قولها. جلست على الاريكة في مكاني الذي لا اغيره. كنت اشعر نفسي حرًا في هذا البيت، ولكن بعد ترملها لم اعد ادخل بيتها الا حينما تتعربشني صغيرتها، فأوصلها للبيت واذهب لغرفتي في الطابق التالي.
-يسممون عقول أطفالنا، يكفيني ما حدث لي.
كنت ما زلت مرتبكًا من دعوتها، قلت:
-هل استطيع ان اساعد بشيء.
-تصور انهم يعلمون اطفالنا الكراهية. لا يهمني ان تكره "شولا" العرب عندما تكبر، هذه مسألتها الخاصة. لكن عندما يعلمونها الكراهية العمياء الآن، وهي لا تفهم ولا تميز الخير من الشر، فهم يربون فيها خصلة الكراهية، خصلة قد تتجه ضدي. او ضد أقرب الناس اليها.
كانت تتحدث دون الاعتبار لكوني عربيًا، وقد سررت بذلك، ولمست به روح الثقة بي، فحديثها غير مقصود به كراهية العرب، وانما تريد ان تقدم لي الحقيقة كما هي، لعلني اساعدها فيما تريد.
صمتت لتلقط انفاسها ولتركز فكرها:
-امس طلبت مني لعبة رشاش، فاشتريتها لها، اليوم عبأته بالماء وقالت انها تريد ان تذهب للناصرة لتقتل كل العرب. عندما زجرتها وجهت رشاشها نحوي وصرخت متكلفة الشراسة:"عربية موتي"... كيف أستطيع الصبر على ذلك؟ قلت لها ان العرب اناس مثلنا، طيبون، فرفضت ان تصدق. قلت لها افرضي ان اباك الذي تحبينه وتنتظرين عودته عربي، فهل تقتلينه إذا رجع؟ فرفضت الاجابة، سألتها إذا كانت تحبك انت، اجابت بالإيجاب، فسألتها الا تعرفين انه عربي؟ فأصرت أنك يهودي... لذلك استدعيتك، ربما يفيدها ذلك...
-اين هي الآن؟
اجابتني بين البسمة والدمعة:
-تبكي في غرفتها لأني اخذت منها رشاشها و... منعتها من قتل العرب.
كانت حائرة بين ان تبكي او تضحك، نادتها. جاءت شولا منفوشة الشعر عابسة، نظرت الي من طرف عينها.
-هل صحيح يا شولا انك تريدين ان تقتلي العرب؟
-هم قتلوا أبي.
-من قال لك ذلك؟...
-المعلمة. وقالت انهم يريدون قتلنا كلنا.
-اذا اعطوك رشاشًا وقالوا لك ان تقتليني، هل ستقتلينني يا شولا؟
-لا .. انت يهودي.
-لو قالوا لك اني عربي.
-هذا ما قالته امي، ولكني لم اصدقها.
-هل تحبين امك يا شولا؟
-نعم احبها.
-من تحبين اكثر، امك ام المعلمة؟
-انا احب امي. و... المعلمة أيضا.
-اذن لماذا تصدقين المعلمة ولا تصدقين امك؟
-امي لا تريد ان اقتل العرب.
احترت بعض الشيء واخذت الام تبكي بمرارة.
-هل تعرفين لماذا تبكي امك؟
-.....
-تبكي لأنك تكرهين العرب. يجب ان لا تكرهي احدًا.
-لا استطيع ان احبهم.
-هل تحبينني؟
-بالطبع انا احبك.
-لماذا تحبينني؟
-.......
-امك قالت لك الحقيقة. انا عربي.
-انت!؟

نظرت اليّ وكأنها تقول لي:"قل اي شيء آخر"... قالت الام وهي تجفف دموعها:
-نعم يا شولا انه عربي. يجب ان تقتنعي بما اقوله لك.
امتلأت عيناها بالدموع وهربت لغرفتها. جلست انا وامها صامتين لفترة طويلة. كنا نسمع خلالها شهقات بكاء الطفلة. لم نكن نعرف ان كان بكاؤها حزنًا لأني عربي ام لان عقلها الصغير قد استطاع الكشف عن الواقع الموحش؟

النهر يجري من جديد

بعد تلك الامسية اصبحت جلساتي امام النهر أكثر تباعدًا. صرت أمل من الجلوس هنا واشعر ان فكري مليء بأمور اخرى. حتى الوجوه المنعكسة طولاً وعرضًا على صفحة النهر لم تعد تثير بي أي متعة. اصبحت ارتاح اكثر لوجودي في غرفتي، فانا قريب لجارتي، اتحدث معها عن شتى المواضيع، وفي السياسية نحتد، كما كنا ايام زوجها، ولكن الاتفاق اصبح اوسع من السابق.
كانت تبحث عني لقتل وحدتها. وكنت أجد لديها نفس الشيء. لم تكن الرغبة الجنسية هي الدافع .. ابدًا. صحيح انها جميلة وانوثتها مكتملة. كانت تحب زوجها بشكل غريب، وحافظت على حبها، وكثيرًا ما تناولنا موضوع هذا الاخلاص بالنقاش. وكنت دائمًا نقيضًا لها. ليس لاقتناعي بموقفي بقدر ما هي رغبة لا اعرف مصدرها لمعاكستها.
وأصبح النهر يعكس وجهها على الدوام. انظر للماء في جريانه فأرى وجهها الشاحب الجميل. وتباعدت زياراتي او كادت تنقطع لمدينتي.
اما "شولا" الصغيرة فأصبحت مفكرة. كان الحديث عن العرب يشد اهتمامها بشكل غريب، وقد عوقبت عدة مرات لأنها عارضت معلمتها فيما تقوله عن العرب، واضطرت امها ان تنقلها لروضة اخرى بعد ان اصطدمت بالمعلمات.

حوار

-اريد ان اقول لك شيئًا ولكن بشرط ان لا يضايقك؟!
-ابدًا. قل.
-لا تربطني بك علاقة خاصة.. كل ما هنالك صداقة جيران واحترام متبادل؟!
-تمامًا!
-ولكني اتضايق عندما تتحدثين مع غيري!؟
مبتسمة:
-هذا تطور خطير لم اتوقعه.
-لا اريد ان تفهمي كلماتي الا كما هي فقط ، وبدون زوائد.
صمتت وقامت تحضر شايًا، وصلني صوتها من الداخل:
-انا اعرف ان الشرقيين ذوو تفكير حار كمزاجهم الحار ولذلك اصارحك باني في الفترة الاولى كنت اخاف ان تحاول الوصول اليّ، لكنك لم تفعل.
-لا اريد ان تفهميني خطأ.. انا احترمك جدا.
-ولو... الاحترام لا ينفي تبادل الحب!
-اني اصارحك اكثر.. إذا قلت لك أنى لا ارغب بك اكون كاذبًا.
-لا ضرورة لقول ذلك! اعرفه....

الحديث الجنسي دائمًا يربكني. يكشفني ويجعلني اقول كل ما لدي دون تغطية. قدمت لي فنجان شاي، ووضعت بعض الكعكات امامي.
-تفضل.
-شكرًا..!

أمور يجب ان توضح عن فترة ماضية

أنا عازب.
في الخامسة والثلاثين من عمري.
فشلت في حبي الاول.
وصدمت في عربي.
فشلي في الحب جعلني أنسى نفسي لعقد كامل.
جعلني اضيع في متاهات المدن الكبيرة.
حيث دخان المصانع يتساوى مع الناس.
وازداد ضياعي بصدمتي في عربي.
فانتهيت وانا موجود.
وعلى ضفة النهر استقر بي الضياع.
وكانت السنوات تمر.
والماء يجري.
والوجوه تنعكس.
والدنيا تتغير.
وانا كما كنت.
ولا أزال.
اعيش حياتي بلا معني.
واقطع العمر بلا هدف.
النهر يجري لهدف.
هدف واضح محدد.
لا يحيد عنه ابدًا
يجرف في طريقه كل العوائق.
وانا على ضفته جامد.
لا ارى نهاية لحالتي.
ولا ارى بداية لشيء جديد.
اجل.
كان النهر يجري.
والحياة كانت تجري ايضًا.
وبقيت أنا...

**
منذ وقت طويل لم اذهب الى النهر ولا اشعر بشوق اليه. في ايام السبت ارافق "شولا" وامها الى البحر. بعض الجيران يثيرون حولنا الشبهات. ولكن لم نلتفت لذلك. فنحن مقتنعان بسلامة علاقتنا. كانت "شولا" تعاملني كما لو كنت ابًا لها. وقد أطربني شعور الابوة، ولو انه غير أصيل. وفي تلك الفترة بدأت أنسي حبي الاول، أصبح ذكرى تبعث على الابتسام. عشر سنوات عشتها في ظل ذلك الحب والآن في اقل من نصف سنة أنسي كل شيء. فترة شبابي الاولى فقدتها تحت تأثير صدمتي بحبي. عشتها وحيدًا ضائعًا معقدًا لا اعرف ما اريد من وجودي.


حوار

-حالنا اصبحت مضحكة.
-هكذا نحن مرتاحون، الا اذا كان هناك ما يضايقك.
-لو كنت اختي، هل كنت اقبل تصرفك هذا؟
-انا في الخامسة والعشرين ولا سلطة لاحد علي...
-ولو...
-المتحرر يتحول الى رجعي. اين نقاشاتك السابقة؟
-عقليًا اقبل ذلك، وعاطفيًا ارفضه.
-نجنا يا ربي من العواطف الشرقية.
-بدأنا بمعالجة شولا، فعالجنا انفسنا.
-كان ذلك من متطلبات العلاج لها، الا اذا ندمت.
-ابدًا، ولكنا لم نتهور... ليس من طبيعتنا.
-ولكن عواطفنا تحن اليه.
-انت غريب، لا اعهدك تتحدث بهذا الشكل؟.

مقالات متعلقة